فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ، وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها».
هكذا رواه الإمام أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن إسماعيل بن عَيَّاش عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس فذكره، وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.
حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويَه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «يا جابر، مَا لِي أراك مُهْتَما؟» قال: قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك دَينا وعيالا. قال: فقال: «ألا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا-قال علي: الكفَاح: المواجهة-فَقَالَ: سَلْني أعْطكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: أنه سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أيْ رَبِّ: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية».
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني، به.
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري، وهو عيسى بن عبد الرحمن، إن شاء الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: «يَا جَابِرُ، ألا أُبَشِّرُكَ؟ قال: بلى. بشّرك الله بالخير. قال شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ: يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ مَعَ نَبِيَّكَ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: أنه سَلَفَ مِنِّي أنه إلَيْهَا لا يَرْجعُ».
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا».
تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعَبَدة عن محمد بن إسحاق، به. وهو إسناد جيد.
وكان الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم.
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة؛ فإن الإمام أحمد، رحمه الله، رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ».
قوله: «يعلق» أي: يأكل.
وفي هذا الحديث: «إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ».
وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح، غير مضمحلّة، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم، ومسرّتهم بإخوانهم، ولذلك كان قوله: {عند ربهم} دليلًا على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق، ونبضات القلب، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائمًا لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة.
فإن علّقنا {عند ربهم} بقوله: {أحياء} كما هو الظاهر، فالأمر ظاهر، وإن علقناه بقوله: {يرزقون} فكذلك، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشئ عنها كائنًا عند الله، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. اهـ.

.قال القرطبي:

هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفًا» قال علماؤنا ذِكر الدَّين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجِراحه وغير ذلك من التَّبِعات، فإن كل هذا أوْلى ألاّ يُغفَر بالجهاد من الدَّين فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنَّة الثابتة.
روى عبد الله بن أُنَيْس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد أو قال الناس، شكَّ همّام، وأوْمَأَ بيده إلى الشام عُراة غُرْلا بُهْمًا. قلنا: ما بُهْمٌ؟ قال: ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه مَن قَرُب وَمَن بَعُد أنا الملِك أنا الديأن لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلِمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلِمة حتّى اللطْمة. قال قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا. قال: بالحسنات والسيئات». أخرجه الحارث بن أبي أسامة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلِس؟. قالوا: المفلِس فِينا من لا دِرهم له ولا متاع. فقال: إن المفْلِس من أُمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شَتَم هذا وقَذَف هذا وأكلَ مالَ هذا وسفكَ دَمَ هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنِيت حسناته قبل أن يُقْضى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قُتل في سبيل الله ثم أُحْيَي ثم قتل ثم أُحيي ثم قُتل وعليه دَيْن ما دخل الجنة حتى يُقْضى عنه».
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلَّقة ما كان عليه دَيْن» وقال أحمد بن زُهَير: سئل يحيى بن مَعِين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح.
فإن قيل: فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل، ولا تكون أرواحهم في جَوف طيرٍ كما ذكرتم، ولا يكونون في قبورهم، فأيْنَ يكونون؟ قلنا: قد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بَارِقٌ يخرج عليهم رزقهم من الجنة بُكْرَةً وعَشِيًّا» فلعلهم هؤلاء. والله أعلم.
ولهذا قال الإمام أبو محمد بن عطية: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم {يُرْزَقُونَ}.
وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شهيد البحر مثلُ شهِيدَيْ البَرِّ والمائدُ في البحر كالمُتَشَحِّط في دَمِه في البر وما بين المَوْجَتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عزّ وجلّ وكّل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولّى قَبضَ أرواحهم ويَغْفِر لشهيد البرّ الذنوبَ كلَّها إلا الدَّين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والديْن».
الدَّين الذي يُحْبس به صاحبه عن الجنة والله أعلم هو الذي قد ترك وفاء ولم يُوص به.
أو قَدر على الأداء فلم يؤدّه، أو ادانه في سَرَف أو في سفهٍ ومات ولم يوفّه.
وأما من ادان في حق واجب لِفافةٍ وعُسْر ومات ولم يَتْرُك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدّيَ عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفَيْء الراجع على المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك دَيْنًا أو ضَياعًا فعلى الله ورسوله ومن ترك مالًا فلورثته». اهـ. بتصرف يسير.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا} الآية.
نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولم يبين هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا؟ ولكنه بين في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون} [البقرة: 154] لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر. اهـ.
قوله: {يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله}
قال الفخر:
اعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى المنفعة، وقوله: {فَرِحِينَ} إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم، وأما الحكماء فإنهم قالوا: إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الإلهية كانت مبتهجة من وجهين: أحدهما: أن تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية.
والثاني: بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة، قالوا: وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول، فقوله: {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله: {فَرِحِينَ} إشارة إلى الدرجة الثانية، ولهذا قال: {فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} يعني أن فرحهم ليس بالرزق، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فرحين} حال من ضمير {يرزقون}.
والاستبشار: حصول البشارة، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى: {واستغنى اللَّه} [التغابن: 6] وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل.
وأصله من البَشرة؛ لأن الإنسان إذا فَرِح ظهر أثر السّرور في وجهه.
وقال السّدّي: يؤتى الشهيد بِكتابٍ فيه ذكرُ من يَقْدَمُ عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقُدومِه في الدنيا.
وقال قَتادةُ وابن جُريْج والرّبيعُ وغيرُهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيّهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثلَ ما نحن فيه؛ فيسرّون ويفرحون لهم بذلك.
وقيل: إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يَلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يُقتَلوا، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دِين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه؛ فهم فَرِحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
ذهب إلى هذا المعنى الزجّاج وابن فُورَك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

المراد {بالذين لم يلحقوا بهم} رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
و{من خلفهم} تمثيل بمعنى من بعدهم، والتقدير: ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة مِن رفاقهم بأَمْنِهم وانتفاءِ ما يُحْزنهم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر.
أما الأول: فهو أن يقال: إن الشهداء يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا، فهو قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم}.
وأما الثاني: فهو أن يقال: إن الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، والمراد بقوله: {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم، دليله قوله تعالى: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْرًا عَظِيمًا درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [النساء: 95- 96] فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم، هذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني والزجاج.
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع إلى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك، وأيضا: فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء، قال تعالى: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69] وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص.
أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم. اهـ.